القائمة الرئيسية

الصفحات

إلى أين يتجه العالم 








مقدمة


تؤثر الحروب على العالم بشكل عام، إذ إن أي حرب من شأنها أن تؤدي إلى جملة من التبعات الاقتصادية والآثار المؤلمة، التي قد تؤثر على اقتصادات العالم، خاصة إذا طال أمد الحرب، فالحروب تتسبب في حدوث ارتفاع حاد في التضخم، وتؤثر على إمدادات الطاقة، وسيؤدي ذلك بالضرورة لحدوث تقلبات في الأسواق المالية العالمية، فأسعار النفط في ارتفاع وكذلك أسعار الغاز، وهذا سيؤدي حتماً لارتفاع أسعار المواد الغذائية، ومن أهمها أسعار القمح، ناهيك عن أي حروب أو نزاعات تؤثر تأثيراً مباشراً على طرق التجارة، سواء الشحن الجوي أو البحري.

والنقل التجاري للركاب والمسافرين سيتضرر بدوره من اندلاع مثل تلك النزاعات، وإغلاق الحدود أو إغلاق المجالات الجوية والبحرية والبرية، كما أن أسعار الشحن العالمي للبضائع، ومن ضمنها المواد الغذائية والأدوية، ستتضاعف دون أدنى شك، وغير أعباء وكلفة التكاليف، فإن تلك الشحنات ستتأخر بالضرورة، ما يشكل خطورة كبيرة على جميع شعوب العالم، التي لا تستطيع الانتظار للمواد الأساسية اللازمة للحياة، كالغذاء والدواء.

ولعلنا ما زلنا نتذكر كيف تأثر العالم أثناء جائحة كورونا، وإغلاق البلدان لحدودها ومجالاتها الجوية، وكذلك كيف تأثر العالم أثناء جنوح السفينة في قناة السويس.

لا يوجد شخص واحد أو بلد واحد مستفيد من النزاعات والحروب، فجميع الأرباح والإنجازات، التي تحققها الحروب لطرف على حساب طرف آخر، لا تضاهى ولا تقارن بالتبعات الأخلاقية والإنسانية، التي تقع وزرها على مسعري تلك الحروب.

العالم سيتجه نحو مفترق طرق، إما أن يعم السلام، و إما أن يظل السلاح هو صاحب الكلمة الأعلى، وبين هذا وذاك يضيع مستقبل الأجيال وتضيع الحقوق، ويدخل العالم في متاهة جديدة من دوامة البحث عن حلول، قد لا تكون حاسمة أو ناجعة أو جذرية.

الحروب هي الكارثة، التي يختلقها الإنسان للأسف، ولكن نارها تطال الجميع، حتى أولئك الذين أشعلوها بالأساس.

السؤال القديم الجديد للفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ الإغريق واليونان، وحتى اليوم، إشكالية تنوعت فيها الرؤى الفسلفية، والأخلاقية، ونزعات القوة، ونظريات القانون الدولي، وتقلبات السياسة ومصالحها، ويطرح العدد السبعون والأخير من مجلة “التفاهم” العمانية (1)، ملفا خاصا بعنوان “الاختلال المتفاقم وإلى أين يتجه العالم”. كان الفيلسوف الألماني “نيتشه” من أوائل من طرح سؤال إلى “أين يسير العالم؟”، وذلك في رده  على تفاؤل الحداثة بتحقيق مستقبل مشرق للإنسان، فتصورات الإنسان عن تسييده على الطبيعة ومآلات هذا التسيد من الأمور ذات الأهمية في فهم مستقبل العالم وتطوره، فبعض الفلاسفة كان شديد الإيمان بالحاضر، مثل “هيجل” الذي كان يقول:”إن مهمة الفلسفة لتنحصر في تصور ما هو كائن؛ لأن ما هو كائن ليس إلا العقل نفسه” فكل شيء ينبع من الحاضر، ويؤوب إليه، والفائت لا يُعتد به، والآتي لا يُنتظر. الرؤى الأخلاقية إجابة على تساؤل ” إلى أين يتجه العالم ؟ ” استعرضت مجلة التفاهم في عددها الأخير المشروعات المتعددة لإصلاح النظام العالمي هذه الطروحات جاءت في غالبها من جانب الفلاسفة والقانونيين، لكنها لم تنجح، لذا اتجهت الجهود لجعل النظام أكثر إنسانية وفعالية، نظرا لأن من مسببات ذلك الاختلال تركز الثروات، والتكنولوجيا، والقوة، ووسائل التحكم المعرفي والاتصالي، في جانب عدد محدود من الدول، وخضوع الآخرين، وهو ما يخلق حالة من الاستتباع العالمي. والحقيقة أنه عندما يلجأ المفكرون الإنسانيون والقانونيون والاقتصاديون إلى الرؤى الأخلاقية، فليس لأنهم لا يعالجون العوامل الاقتصادية والاستراتيجية؛ بل لأنهم يرون أنّ الظلم، والاختلال البيئي، وإفقار نصف العالم؛ كل ذلك لم يعد من الممكن احتماله، لما فيه من امتهان للكرامة الإنسانية، لذا انشغل هؤلاء بمسألة الانصاف في النظام العالمي، مثل: “جون رولز” John Rawls في كتابه “نظرية في العدالة” A Theory of Justice ، واللاهوتي الكاثوليكي “هانس كينغ” كتابه “مشروع أخلاقي عالمي،  دور الديانات في السلام العالمي” والذي أكد فيه أنه “لا استمرارية من دون أخلاق كونية، ولا سلام عالمي من دون سلامٍ ديني، ولا سلام ديني من دون الحوار بين الديانات”، ولعل هذا ما يجعل مسألة الاصلاح في النظام العالمي مرتبطة بمعالجة تلك الاختلالات، قبل أي شيء، من خلال إيجاد حالة من التوازن السياسي الاقتصادي والمعرفي بين التكتلات والقوى الدولية. وبحسب منظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية، فالعالم ينقسم إلى 60% من البشر لديهم الكفاية من الغذاء والدواء والأمن الاقتصادي، و40% يعيشون تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، ومن هنا يصبح الوصول إلى مجتمعات الكفاية ضرورة إنسانية وعالمية، فالاقتصاديون يسمون الدول التي لا تستطيع توفير الاحتياجات الأساسية بـ”الدول الرخوة”، وهي الدول التي يكثر فيها الفساد واحتكار الموارد من جانب فئةٍ أو فئات من السياسيين ورجال الأعمال، ويضعف فيها حكم القانون، ويلاحظ أن الأسواق في العالم يسودُها الأقوياء، الذين تتوفر لهم الأدوات الثلاث: رأس المال والسلع  والتقدم العلمي والتكنولوجي، ووسائل الاتصال المتطورة. وقد أظهر “وباء كورونا” أهمية الأمن الصحي العالمي، بعدما أصبحت التبعية ترسمها الأسواق إنتاجا وإحتياجا وقدرة على الشراء، فحتى القوة العسكرية ليست كافيةً لتحقيق الأمن الاستراتيجي، بل لا بد من قُدُرات سوقية وتكنولوجية واتصالية ومعرفية، ويتنبأ “فريد زكريا” في كتابه الأخير الصادر عام 2020 بعنوان “عشرة دروس: من أجل عالم ما بعد الوباء” Ten Lessons for a Post-Pandemic World أنّ حالة اللامساواة في الأوضاع الإنسانية في العالم سوف تزداد سوءًا. وعلى الجانب الآخر تحدث “توماس فريدمان” في كتابه ” العالم المسطّح” The World Is Flat‏  عن آفاق الحرية الاقتصادية العالمية، فرأى أن العالم أصبح مسطّحاً، وأن الحدود بين الدول لم تعد ذات أهمية، وأن التداخل بين الحدود أصبح كاملاً، وصارت كل الشعوب تعيش في عالمٍ واحد، وتوصل إلى هذه النظرية من خلال رصد كل العمليات التصنيعية التي تقف وراء صناعة جهاز الكمبيوتر لطباعة كتابه، وكان لـ”فريدمان” مقولة مراوغة أطلقها عام 1999 فحواها أن الدول التي فيها مطاعم ماكدنونالدز الشهيرة لا يوجد حرب بينهما. رصد “فريدمان” في كتابه عشرة أسباب، حول رؤيته للعالم المسطح، صاغها في شكل عناوين جذابة، منها: -عندما تهدم الجدران وتصعد النوافذ، حيث تأسست شركة مايكروسوفت بعد ستة أشهر من انهيار جدار برلين عام 1989، والتي ساعدت برنامجها الشهير Windows على انتشار الكمبيوترات الشخصية حول العالم. -عندما بدأت الشبكة بالتفرع، ويقصد هنا شبكة الانترنت، والتي صمم أول موقع اليكتروني عليها عام 1990، وهذا مكن كل من يملك حاسوبا شخصيا أن يقول كلمته للعالم. -التحميل: وهي القدرة على تحميل الملفات والصور والبرامج من وعلى الانترنت دون تكلفة كبيرة أو بدون تكلفة. -الانتقال إلى ما وراء الشواطيء ، الركض كالغزلان والأكل كالأسود، حيث يمكن لصاحب أي مشروع أن ينشيء مشروعه في البلاد ذات التكلفة الرخيصة في العمل والموارد، لكي يكسب ويحقق أرباحا كبيرة، وهو ما يكشفه توجه كبرى الشركات العالمية إلى الصين. -المنشطات: ويقصد بها وسائل الاتصال الحديثة من هواتف محمولة، وانترنت، والتي مكنت من تسهيل حياة الكثير من الناس حول العالم، وملخص ما يروج له “فريدمان” أن العولمة ذات قدرة على إنشاء السلام العالمي واستدامته. وإجابة على سؤال “إلى أين يتجه العالم ؟ “ناقش عدد “التفاهم” قضية مهمة، وهي موقع الطبقة الوسطى، التي تتآكل عالميا في ظل تغيرات سوق العمل، وتزايد الاعتماد على التشغيل الآلي الذي يزيد من أعداد العاطلين، وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، الذي يقود إلى ارتفاع مديونيات الأسر مما يهدد بسحق الطبقة الوسطى، إضافة إلى انعدام الأمن الوظيفي، والتوسع الرقمي الذي سيؤدي حسب بعض الدراسات إلى فقدان أكثر من (800) مليون شخص لوظائفهم بحلول عام 2030، أي أكثر من 20% من القوى العاملة العالمية، ناهيك عن تحول  نمط العمل إلى النمط غير الثابت، وهذه التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى تنعكس على تلك الطبقة التي تعد صمام الأمان في المجتمعات. مدخل الإصلاح كانت مسألة الإصلاح أحد المداخل التي انشغل بها المفكرون فالبلد الذي يقوده العقلاء والفلاسفة، ويسود فيه العدل والسعادة،  من المتوقع أن يتحرك في الساحة العالمية بطريقة إيجابية ويتلمس فيه العدل والإنصاف، واعتبر ذلك من قبل مفكري الإسلام أحد مداخل السعادة. وفي الرؤية الإسلامية فإن الأخلاق لا تنحصر في المجال الفردي، ولكن تتسع لتشمل الجانب الاجتماعي والمجتمعي، أما السياسة في الرؤية الإسلامية فهي سياسة الإنسان لنفسه، من خلال الأخلاق، التي هي علم تدبير النفس؛ أي سياسة الإنسان نفسه من أجل أن تصير أخلاقُه وأفعاله فاضلةً، ومعرفة هذه الفضائل هي تمهيد لعلم تدبير المدينة أو علم السياسة. والأخلاق-في الرؤية الإسلامية- لا تنحصر في المجال الفردي؛ بل تتسع لتشمل المجال الاجتماعي المُمَثل في المدينة، فالمدينة صورة لأفرادها، ومن هنا ارتبط علم الأخلاق بعلم السياسة ارتباطاً وثيقاً، حتى أنهما يُعدّان فرعَيْن لعلْمٍ واحد يهدف إلى إيجاد المدينة الفاضلة والدولة السعيدة.  يقول الفيلسوف “أبو الحسن العامري” (2) في كتابه “السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية” : “إن أحق الأديان بطول البقاء ما وجدت أحوالُه متوسطةً بين الشدة واللين؛ ليجد كل من ذوي الطبائع المختلفة ما يصلح بِهِ حاله في معاده ومعاشه، ويستجمع له من خير دنياه وآخرته”، فالفكر الإسلامي كان يسعى لدولة أفضل وعالم أفضل من خلال المدينة الفاضلة التي يحكمها الفلاسفة، والتي تُحقق الفضيلة، ولا تنفصل فيها السياسة عن الأخلاق، فالسياسة وسيلة لتحقيق الفضيلة التي لا تتحقق السعادة إلا بها، لذا جعل “الفارابي” من السعادة أساسا للحكم في دولته، والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تُطلب  أصلاً ولا في وقت من الأوقات  ليُنال بها شيءٌ آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها.

الرقمنة وتغير العقل البشري

التكنولوجيا ليست محايدة ثقافيا، هذا ما خلص إليه المفكر الفرنسي “جاك أيلول” في كتابه “خدعة التكنولوجيا” الذي يعد من أهم الكتب التي صدرت في مطلع القرن العشرين، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف البحث حول تأثيرات التطورات التكنولوجية على الإنسان، وفي كتاب “تغير العقل:كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا” للكاتبة البريطانية “سوزان غرينفيلد” نقرأ إشكالات وقضايا ترتبط بحياة الإنسان المعاصر الذي أصبح أسيرا للشاشة سواء كانت في الكمبيوتر أو الموبايل أو الفضائية، فطول الوقت الذي يقضيه الإنسان أمام تلك الشاشات وتكراره بشكل يومي بدا ينتج آثاره على الإنسان في تحولات واضحة في طريقة عمل العقل البشري وإدراكه للأمور ثم انعكاس تلك التغيرات في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية وثقافته وتطلعاته. كتاب “تغير العقل” مكتنز للغاية بالأفكار العلمية والبحثية والمعلومات الدالة على سعة معارف الكاتبة وإحاطتها الواسعة بالموضوع، وهو ما يجعلنا نتوقف فيه عند بعض اللصيقة بمعاشنا وحياتنا والتي باتت الرقمنة تحتل فيها مكانا محوريا ومتصاعدا وهادرا، فخبرة الإنسان تشير أن أي ثورة تكنولوجية تؤدي إلى تقدم كبير، وتؤدي دائما إلى مشاكل غير متوقعة تحتاج إلى تأهب لمواجهتها. والحقيقية المهمة أن التكنولوجيا إذا استخدمت بصورة معقولة فإن نتائجها تكون معقولة، لكن في حالة الرقمنة فإن الاعتدال غائب، وتشير الأرقام أن الفرد يستخدمها ما يقرب إحدى عشر ساعة يوميا، وهو ما يستدعي التوقف والقلق، فالعالم يشهد هوسا متصاعدا بالشاشة، الرقمنة خطفت الحياة اليومية بأسرها وتفاصيلها، ولم يعد في استطاعة الآباء أن يمنعوا أطفالهم أو يعرفوا ما يفعلونه على الانترنت، وهؤلاء ينذرون بظهور المواطن الرقمي الذي لا يعرف شيئا عن الحياة بدون الإنترنت. ومن الحقائق التي تصدمنا في الكتاب، تغير سلوك الشخص في البيئة الافتراضية عنه في الواقع، وشعور الصغار تحديدا بأنهم أقوى وأكثر ثقة بأنفسهم في العالم الافتراضي عنه في الواقع، وهو ما جعل غرفة النوم الموجود فيها الكمبيوتر أو الموبايل الخاص بهم هي متعتهم و ملاذهم وعالمهم الذي يبنونه ويستمتعون فيه، وبالتالي بات هناك انعزال مخيف داخل الأسرة الواحدة، وأصبح أفرادها والبعيدين والذين يتواصلون من خلال الانترنت أقرب إلى الدفء في العلاقة من الذي ينامون في الغرفة المجاورة لهم. كذلك هناك شعور متنام لدى الشباب والصغار أن ما يفعلونه على الانترنت لا عواقب له، خاصة إذا أخفوا هوياتهم وأسمائهم الحقيقية، وهو ما أوجد جرأة على فعل الخطأ والمحظور دون أي شعور بالذنب أو خوف من العقوبة، بل زاد الأمر أنه أوجد تحجرا واضحا في المشاعر وتبلدا في الإحساس، فالمراهق قد يكتفي في علاقته بأبويه بوردة ينشرها على صفحته في فيسبوك، دون أن يفكر أن يرتمي في أحضانهما ويتلامس مع قلوبهما، بل إنه قد يحجب أبويه عن صفحته على فيسبوك حتى لا يعرفوا حجم التناقض بين سلوكه وما يبثه من مواد وتفاعل. ويلاحظ وجود إدمان للشاشة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، ففي الولايات المتحدة مثلا عام 2011 اشترى (71%) من مستخدمي الانترنت البالغين سلعا من خلال التسوق الاليكتروني، كذلك تقلصت مساحة اللعب البدني للأطفال وتحول الأطفال إلى العب الاليكتروني، وغاب الهواء النقي المنعش عن رئات الصغار ليتعرضوا لمضار الشاشات النفسية والبدنية، ومن ثم صدرت تحذيرات من “تآكل الطفولة” في ظل الرقمنة، بعدما أصبحت قصص الأطفال وتكوين رؤيتهم عن محيطهم لا تأتي من تجربتهم التي تختزن في أدمغتهم ولكن تأتي من البرامج التي يشاهدونها بكثافة ولساعات طويلة. وفي تقرير صدر 2012 عن معلمي  الثانوية في الولايات المتحدة ذكر أن (87%) منهم يرى أن الرقمنة تخلق جيلا مشتت الانتباه، لأن طلابهم يقضون الوقت في تبادل الرسائل القصيرة والترفيه فيفقدون معظم طاقتهم قبل أن تُعبأ عقولهم بالمعلومات أو أعماقهم برؤية واضحة للعالم حولهم، ومن ثم تتراجع ملكات التفكير العمق والتعبير الوجداني بل والمحتوى الحقيقي الذي يبثونه، وأورد الكتاب أرقاما مهمة منها أن جزءا كبيرا من مستخدمي فيسبوك (يزيد عدد مستخدمي فيسبوك على المليار شخص) لا يبثون محتوى ولكن يضعون إعجابا فقط على ما يقرؤونه، وهو ما يعني في التحليل الأخير غياب المشاركة والتفاعل نحو كثافة التلقي الذي يشوش على التفكير. وقد خلقت الرقمنة حالة عالية من الهوس بالذات، ويكفي أن تمشي في أحد الموالات الضخمة وتحصى الآلاف الذين يلتقطون صورة “سيلفي” لذواتهم ويبثونها في الحال على الانترنت، في محاولة للحصول على الاستحسان من الآخرين، وأثبتت دراسات عام 2013 أن عشرات الآلاف أغلقوا صفحاتهم على فيسبوك نظرا لعدم الرضا عن حياتهم وأشكالهم مقارنة بالآخرين الذين يبثون صورهم في لحظات الاستمتاع بالحياة بشكل كثيف، فالرقمنة قللت الرضا عن الحياة وفرضت على الشخص أن يقارن نفسه دائما بغيره فاختار البعض أن ينتحر في العالم الافتراضي بدلا من أن ينتحر في العالم الواقعي.. وعرض الكتاب لأزمة الكتاب الورقي في ظل الرقمنة، ففي عام 2012 تجاوزت مبيعات الكتاب الاليكتروني لأول مرة مبيعات الكتاب المطبوع في الولايات المتحدة، فالكتاب الاليكتروني ينمو بوتيرة متسارعة للغاية، ولكن هل هناك فارق فوارق في طبيعة القراءة بين القراءة الرقمية والورقية؟ تحدث كتاب “تغير العقل” عن ذلك استنادا لدراسات متعددة خلصت أن الانخفاض في الانتباه المستمر أصبح يميز مهارات القراءة والكتابة الاليكترونية التي تميل إلى التصفح والقراءة السريعة والانتقائية ولمرة واحدة بدلا القراءة المتعمقة التي صبغت القراءة الورقية، فالشاشة في القراءة تتسم بتشتت الانتباه، كما أن القراءة الورقية تمنح القارئ مزيدا من الوقت للتأمل وتغريه بالشك. أما مسألة استبدال الكتب الرقمية بالكتب الورقية في العملية التعليمية فلم تؤد إلى نتائج مرضية، إضافة إلى أنه في ظل تصاعد الرقمنة في الجامعة فإن كثيرا من الطلبة تصل إلى النصف في بعض الجامعات الغربية، لم يعودوا يرغبون في حضور المحاضرات ويكتفون بمطالعتها على الانترنت، لكن الدراسات أثبتت أن ذلك لم يؤد إلى تحصيل جيد لأنه لا غنى عن التفاعل البشري فلا يمكن أن تحل الرقمنة محل الإنسان في كامل العملية التعليمية، والأفكار المعقدة لا يمكن تعلمها من الشاشة، فالتعليم ليس تعبئة للرأس بالمعلومات، ولكن إدراك العلاقات بين المعلومات وفهم البيئة والسياق الذي تتحرك فيه، فمع طوفان المعلومات تغيب المعرفة، وفي ظل كثافة المعرفة تختفي الحكمة، ولا شك أن الحكمة هي غاية العلم والإنسان معا، وهنا تحضرني خبرة التعليم في الحضارة الإسلامية حيث كان علمائنا لا يثقون فيمن يتلقى من الكتب مباشرة دون شيخ، فمن كانت شيوخه الكتب لم يكن عالما كاملا، لهذا كان علمائنا يأخذون الكتب بطريقة الإسناد وهو ما حل كثير من ألغازها. ولفت كتاب “تغير العقل” الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي “أن من 20 % إلى 40% من الذكاء موروث، أي أن ما يقرب من 80%  من الذكاء مكتسب، وفي ظل تحكم الشاشة في تكوين الرأي فإن العقل فعلا أمام مرحلة تغير يجب إدراكها والاستعداد لمواجهة آثارها التي تمد يديها داخل البيوت والأنفس على السواء..  

 

تعليقات