القائمة الرئيسية

الصفحات

ثقافة الاختلاف..تلاقح الأفكار و الآراء


مراد العتميوي باحث في العلوم القانونية و الاجتماعية ، حاصل على ماستر القانون الاداري و تدبير التنمية.


يلاحظ انتشار خطاب الإقصاء وميل الأفراد نحو رفض الرأي المخالف في المجتمعات المتخلفة. وبين من يرى في الاختلاف نعمة ومصدر غنى لا يمكن سوى أن يساعد على بروز أنماط تفكير جديدة، وبين من يعتقد أن الحقيقة وحيدة ومطلقة وهي غالبا ما تكون بجانبه لا بجانب أحد آخر ، تتعدد أفهام الناس بخصوص مفهوم الاختلاف، لذلك أحببت أن أقف عنده من حيث هو قيمة ومبدأ، وعند نفور بعض الناس من الاختلاف وعدم استساغتهم له سواء أكان موضوع الاختلاف فكرة أو ثقافة أو معتقدا أو مبدأ أو قاعدة ( نظرا لاستخدامه العقل و العاطفة عوض ادوات التحليل العقلي. 

لا يجد كثيرون حرجا في الحديث بلكنة كلها جزم وقطع ويقين، لا يتركون معها مكانا لشيء يسمى الرأي المخالف، وكأنهم أعرف العارفين، والمزعج هو أن يصبح رفض المخالف عقيدة مجتمعية(كوريا الشمالية نموذجا ، حركة طالبان ) ، لأن ذلك لا يمكن سوى أن يكون مرآة لخلل معين في الفكر الجمعي لمجتمع معين. 
النزعة الاستئصالية والخوف من الآخر المختلف عنا، والتعصب للفكرة الواحدة هي من علامات التخلف الذي لا يوصل لشيء سوى إلى مزيد من التخلف
ولربما بدأ بعض الناس يفهمون أن الاختلاف ثابت، وأن المتغير هو طريقة التعامل مع هذا الاختلاف من زوايا مرجعية مختلفة تتحكم فيها وسائل التنشئة المجتمعية ( الأسر ، المدارس ، الإعلام ...) التي تقدم الافراد صور نمطية عقائدية تتحكم في طرق تفكيرهم ما أسماه فريد بالانا الاعلى، فإما أن نحسن إدارته من خلال احترام المخالف ومحاورته مع كل ما قد ينتج عن ذلك من تبادل في وجهات النظر، وإما نرفضه ونعرض عنه. وحينما أدعو إلى التحلي بالاحترام تجاه من يختلف معنا، فإني لا أدعو بذلك إلى الارتماء الأعمى بين أحضان أفكاره وإلى تبني آرائه، بل أؤكد على أهمية الإقرار بكينونة "آخر مختلف"، وفهم أن ذلك مهم وأساسي حتى نعيش كلنا، وحتى يتطور الفكر الإنساني في عمومه و يتقدم عن طريق تبادل الأفكار و النظريات و إخضاعها للفحص و النقد. 
تخيلوا لوهلة واحدة عالما فيه أناس متشابهون؛ فكر واحد وثقافة واحدة، ولغة واحدة، أناس تجمعهم القيم والتقاليد عينها ( رغم أن هذا الاحتمال غير محتمل الوقوع نظرا لتغير طبائع الناس بتغير اوساطهم الجغرافية الطبيعية الثقافية ... فالإنسان طبع ابن بيئته ، ويخيلون العالم بالأسلوب نفسه، ألن يكون عالما غارقا في الملل إلى الأذنين؟ ألا يصير الاختلاف وأنتم تتذكرون هذه الصورة نعمة كبرى تخفي وراءها حكما أعظم؟ تأسس لحرية التفكير و هذا ما عجز عن تطبيقه الحزب الشيوعي مما نتج عنه من قمع الحريات و الحقوق .
حينما يعجز الفرد عن إدارة الاختلاف مع آخر من نفس المجتمع الذي ينتمي إليه، فحينئذ يتوجب قرع جرس الإنذار إيذانا بمشكلة في قيم المجتمع المعني، لأن التعددية هي رافد مهم من روافد التقدم القويم والصحيح، معنى هذا الكلام أنه في داخل مجتمع ما، مهما اختلفنا وطالما قبلنا الاختلاف وجعلناه بوابة للحوار وتبادل الأفكار، فإن ذلك لا يمكن إلا أن يكون نافعا للمجتمع برمته، لأن الاختلاف والحوار الذي قد ينتج عنه لا يغيران مقدار ذرة في وصال المختلفين، بل إنهما يفتحان مداركهم نحو تمثلات جديدة ربما كانوا على جهل بها، والاختلاف لا يفسد للود قضية حسب القولة المأثورة.
من جهة أخرى، لا يمكن أن نفصل بين الاختلاف وطرق التواصل بين الناس، وهو ما يعبر عنه الكاتب ستيفان كوفي حينما يقول "إن أعظم مشكل نواجهه ونحن نتواصل هو أننا لا ننصت لكي نفهم، بل ننصت لكي نجيب". وحينما يندفع المرء إلى الكلام دون أي محاولة لفهم آراء من حوله، فإن ذلك لا يمكن إلا أن يقوده إلى رفض الآخر، فهو يرفض حتى أن تتلقف أذناه خطاب الآخر، فكيف أن يمحصه ويرد عليه، لذلك فثقافتا الاختلاف والحوار لا تنفصلان، كما أن إحياء لغة الحوار هي أول خطوة نحو بناء مجتمع يؤمن بثقافة الاختلاف و يقبل بعيش الجميع. 
قبول الآخر مهما كانت أبعاد اختلافنا معه ضرورة لا محيد عنها، وواجب لمن أراد أن يستشرف المستقبل بأمان، ولا تعارض إطلاقا بين قبول الاختلاف والفكر المحافظ الهوياتي
إن النزعة الاستئصالية والخوف من الآخر المختلف عنا، والتعصب للفكرة الواحدة، هي من علامات التخلف الذي لا يوصل لشيء سوى إلى مزيد من التخلف.. ويصير الأمر سيئا حد السخرية حينما تكون فكرة الآخر الذي ترفضه أقرب إلى الصواب مما أنت تعتقده، لا بل إنه من الغباء أن يرفض المرء من يختلف معه، ثم إن الاكتفاء بالتفاعل مع من يحملون نفس أفكارنا ونفس قناعتنا لن يحمل جديدا ولن يقدم شيئا. إن قبول الآخر مهما كانت أبعاد اختلافنا معه ضرورة لا محيد عنها، وواجب لمن أراد أن يستشرف المستقبل بأمان، ولا تعارض إطلاقا بين قبول الاختلاف والفكر التعددي من جهة والفكر المحافظ الهوياتي من جهة ثانية؛ فالفكرة المخالفة بوسعها أن تكون منبع إلهام أو مصدر صقل ونحت لأفكارنا، فنصير ونحن نمزج بين الفكرة الأصلية التي نؤمن بصحتها وفكرة الآخر التي انفتحنا عليها منتجين لأفكار جديدة، أما أولئك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم متى ما بزغ فكر مختلف عما هم يؤمنون به، فإنهم لا يقومون سوى بحشر أنفسهم في زاوية مغلقة ومعزولة، وهم يحرمون ذواتهم من خير كثير عنوانه تلاقح الأفكار والآراء الذي هو من أسباب ازدهار الأمم والمجتمعات.

تعليقات